الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
ملامح من تاريخ العمارة والفنون التطبيقية عند السلاجقة وجمالياتها في التصميم والزخرفة، مع نماذج إبداعية من العمارة السلجوقية.
كان السلاجقة معجبين بفنون الفرس وروائعهم ممَّا جعلهم يتأثَّرون بجماليَّاتها، ويحرصون على خلق طرازٍ جديدٍ تجلَّى في العمارة والفنون التطبيقيَّة وزخارفها، والمخطوطات وصورها، فاهتمَّ السلاجقة بعمارة المساجد والمدارس والترب والخانات، كما اهتمُّوا بترميم الأسوار وأبراجها.
ومن أهم مساجد العهود السلجوقية:
- مسجد الجمعة في أصفهان (1072-1092م= 464–485هـ): أبعاده 220م × 84م، فيه مقصورة السلطان، تعلوها قبة، وإيوان واسع.
- الجامع السلطاني الكبير في بغداد: شيد في عهد السلطان ملكشاه عام (1092م=485هـ)، يُعدُّ أكبر نموذج جامع بإيوانات واسعة.
تميَّزت مآذن المساجد السلجوقية بشكلها الأسطواني ورشاقتها وارتفاعها الذي يجسد الطموح الروحي ويدلُّ على خبرةٍ معمارية.
المدارس السلجوقية
قام السلاجقة بتجديد الحياة الفنية؛ فأحدثوا المدرسة لتكون مؤسَّسةً ثقافيَّةً وتعليميَّة، شُيِّد مبناها وفق هندسةٍ معماريَّةٍ مقتبسةٍ من العمارة في إيران والعراق، وتعتمد على الإيوانات المطلَّة على باحةٍ سماويَّة، وفي الجهة الجنوبيَّة المصلَّى، وهناك غرف سكن الطلاب في طبقتي المبنى، وكانت المدرسة بمنزلة "حصن الفقه"، ومن أهمِّ هذه المدارس:
- مدرسة نيسابور.
- المدرسة النظامية.
إنَّ كثرة المدارس النظامية التي أسَّسها الوزير نظام الملك وأنفق عليها بسخاء، جعلت الخصوم والواشين يُثيرون السلطان ملكشاه ضدَّه، زاعمين أنَّ هذه الأموال التي يُنفقها على المدارس كافيةً لإعداد جيشٍ كبيرٍ يرفع راياته فوق أسوار القسطنطينيَّة، فدافع الوزير السلجوقي عن سياسته، ويُلاحظ أنَّ معظم المباني السلجوقية تضمُّ المسجد والمدرسة والضريح، وكثيرًا ما يُعرف المبنى باسم المدرسة؛ كالمدرسة المستنصرية في بغداد التي بناها الخليفة المستنصر عام (1232م=629هـ) لتدريس المذاهب الأربعة في إيواناتها.
عمارة الأضرحة السلجوقية
ومن المرجَّح أنَّ عمارة الأضرحة من ابتكار السلاجقة؛ لرأيهم أنَّ مبنى الضريح مهمٌّ ومقدَّس، ولمباني الأضرحة شكل برجٍ أو شكلٌ تعلوه قبَّة، ومن أهمِّ المباني الجنائزية مبنى قبر سنجر (1117-1158م= 510-553هـ) آخر سلاطين سلاجقة خراسان في مرو، وتتألَّف مباني الأضرحة من قاعة مربعة الشكل تعلوها قبَّة من الآجر قادرة على الصمود عند حدوث الهزات الأرضية، وغدت القبة العنصر المعماري المهم.
تقنيات العمارة السلجوقية
واستُخدمت المقرنصات للمرَّة الأولى في العهود السلجوقية عنصرًا معماريًّا وزخرفيًّا؛ وذلك في زوايا القباب لنقل أعلى داخل المبنى من الشكل المربع إلى الشكل المستدير، عوضًا عن المثلثات والحنيات الركنية.
وتتجلَّى تقنيَّات العمارة في كلٍّ من فارس والعراق في استخدام الآجر والقبَّة مخروطيَّة الشكل والمقرنصات الجميلة والغنيَّة بتعقيداتها التي تُثير الإعجاب بجماليَّاتها، بالإضافة إلى ذلك الأقواس المدبَّبة.
وفي آسيا الصغرى تُعدُّ قونيَّة مركزًا حضاريًّا مهمًّا، تفخر بضريح جلال الدين الرومي (1207-1273م= 604-672هـ)، وبمبانيها التاريخية ولاسيَّما مسجد علاء الدين، والأسواق القديمة، والأبراج المنيعة، وهناك قصر السلطان في قونيَّة، والآثار الفنيَّة في متاحف قونيَّة وغيرها.
العمارة السلجوقية في بلاد الشام
وشهدت بلاد الشام في عهود السلاجقة -أتسز بن أوق، وتتش بن ألب أرسلان وابنيه رضوان ودقاق، وطغتكين، وعماد الدين، ونور الدين- نهضةً معماريَّة وفنيَّة تدلُّ عليها المباني التاريخيَّة والآثار الفنيَّة.
ففي دمشق: برج نور الدين، وباب الفرج، والباب الصغير، والبيمارستان النوري، والمدرسة النورية، والحمام النوري.
وفي حلب: مسجد قلعة حلب، والبيمارستان النوري.
وفي بصرى: جامع مبرك الناقة.
وفي حماة: جامع نور الدين والبيمارستان النوري.
وشيَّدت ربيعة خاتون شقيقة السلطان صلاح الدين الأيوبي وزوجة أمير أربيل مظفر الدين كوكبري، المدرسة الصاحبيَّة في دمشق عام (1233م=630هـ)، تميَّز مبناها بجمال الواجهة الحجريَّة والبوابة المزيَّنة بالمقرنصات، وهناك إيوانان، وفي جنوبي المبنى المصلَّى، بالإضافة إلى ذلك تربة تعلوها قبَّة.
الفنون التطبيقية في عهد السلاجقة
شجَّع السلاجقة الفنَّانين التطبيقيِّين على متابعة فعاليَّاتهم الفنيَّة التي أبدعت الروائع الخزفية والزجاجية والمعدنية والخشبية والنسيجية وفن الخط والمنمنمات الجميلة، وتجدر الإشارة إلى دور المينا في تزيين سطوح المصنوعات المعدنية التي تُزهى بها متاحف العالم.
وافتنَّ الخزَّافون في إبداع روائعهم المختلفة، ولاسيَّما الخزف ذو البريق المعدني، والجبري، واللقبي، الذي اشتهرت به الرقة والري وقاشان وغيرها، واستخدم الخزف المعماري في كسوة جدران المباني، وبدت البلاطات الخزفية بتكويناتها الجميلة كسجادة من الخزف.
وافتنَّ الرسَّامون في رسم أشخاصٍ في أيديهم كئوس الشراب، أو الآلات الموسيقية، بالإضافة إلى رسوم الحيوانات والنباتات والكتابات، وأبدع الزجَّاجون روائعهم المختلفة وزيَّنوها بخيوطٍ زجاجية أو أقراص أو كتابات مذهَّبة.
كما أبدعوا وزنات زجاجية للتأكد من سلامة وزن الدنانير، وأبدع النحَّاسون مصنوعاتهم وزيَّنوها بالنقوش وتنزيل الفضة أو الذهب في الأماكن الفارغة مشكَّلة تكوينات جذابة، واشتهرت الموصل بتقنية تكفيت النحاس والبرونز وتنزيل الذهب والفضة بذوقٍ فني، وكانت هذه الروائع تُعدُّ من الهدايا الجميلة، وقد دفعت الكوارث المتعاقبة أولئك الفنانين التطبيقيين إلى الهجرة مما أسهم في نشر الخبرات المهنية، كما ازدهر فن الفسيفساء الحجرية والخزفية، وتميَّز بتشكيلاته الفنية وثراء ألوانه التي تُلبِّي رغبة الإنسان في رؤية الجمال.
وأبدع النجَّارون أجمل المنابر والمحاريب وكراسي المصحف، واستخدموا مختلف التقنيَّات وبخاصَّةٍ تنزيل العظم والعاج، وتشكيل تكوينات هندسية ونباتية وكتابية، والجدير بالذكر أنَّ فنَّاني حلب أبدعوا المنبر الخشبي الذي أهداه السلطان صلاح الدين إلى الجامع الأقصى بعد تحرير القدس، وفي المتحف الوطني بدمشق ضريح خشبي للأميرة السلجوقية بختي خاتون.
وبفضل السلاجقة ازدهرت صناعة البسط الشعبية والسجاد، واشتهرت المدن الفارسية بروائعها بطريقة العقد، وتدين مدن شيراز وتبريز وغيرها بشهرتها إلى روائع سجَّادها، واشتهرت الموصل ودمشق وحلب بمصنوعاتها النسيجية التي عُرفت بأسمائها، وخاصة الدامسكو والموصلين.
ويعد المتحف الوطني بدمشق من متاحف العالم التي تُزهى بالآثار السلجوقية، خاصَّةً النقود بكميَّاتٍ كبيرة.
وقد زيَّن الفنَّانون مقامات الحريري، وكليلة ودمنة، والمخطوطات العلميَّة المختلفة بروائع التصوير، التي تُمثِّل كائنات بشريَّة وحيوانيَّة، وتقصد إلى الزينة والزخرفة والتوضيح، وقد تميَّزت بدقَّة رسمها وغنى ألوانها، واستخدام الذهب والفضة فيها، وعدم الاهتمام بالمنظور.
وتُعدُّ مدرسة بغداد للتصوير من أقدم مدارس فن الصور الصغيرة (المنمنمات) في القرن الثاني عشر، ومثال ذلك صور مقامات الحريري مرآة حياة طبقات المجتمع الصادقة، وتزهو مكتبة باريس بأهم مخطوطةٍ لمقامات الحريري، التي زوَّقها المصوِّر يحيى بن محمود الواسطي، ويعود تاريخها إلى (1237م=635هـ).
وإذا كان الوزير العباسي أبو علي محمد بن مقلة (866-940م= 272-329هـ) قد ضبط هندسة الخطوط ونسبها، فإنَّ عبد الله ابن مقلة أسهم في تجويد الخط النسخي.
__________________
المصدر: الموسوعة العربية العالمية، المجلد الحادي عشر، ص40.
التعليقات
إرسال تعليقك